سيدتي:
حين تدفق فيضان حبك يروي ظمأ شرايين فؤادي العطشى، وحين أزهرت ورود عشقك في صحراء حياتي القاحلة، وحين استيقظ قلبي الساكن ليتراقص منتشياً على أنغام صوتك الملائكي كدت أهرع إلى شهادة ميلادي... تلك التي خطتها يد تجهل معنى الميلاد الحقيقي فأمزقها، و أكتب شهادة ميلاد جديدة بها اسم جديد، ولقب جديد، وموضع ميلاد جديد،.... أحببت أن تدون ساعة مولدي ساعة وقعت عيني عليك، وأردت أن يكون لقبي حبيبها وأن يكون مكان مولدي عينيك...
أردت أن يقر الكون بأن ما مر من عمري إنما كان ساعة انتظار أمضيتها في رحم الحياة البائسة منتظراً أن تهبني ابتسامتك نسمة الميلاد.
ليتك تذكرين حين رأيتك تخطرين أمامي ... حينها تخيلت أن ذلك الثوب الأزرق الذي ترتدينه إنما هو قطعة اقتطعتها من السماء، وشعرك المنسدل عليه فيضان ليل يهبط ساعة غروب فتختفي معه بقايا النهار لكنه لا يستطيع أن يخفي بهاء وجهك المقمر ولا لمعان النجوم المتلألأة في تغرك...
بينما كنت تقتربين ... وبدأت نسائم عطرك تنساب ناعمة وادعة تربت على أبواب الأنفس معلنة قدومك وددت لو أن لي ألف رئة أختزن فيها هذا العبير...
وحين سلمت و سرى صوتك الرقيق هادئاً ليسكن صخب الأصوات الأخرى و يمتزج بنغمات قيثارة ذلك العازف الذي وجل حين سمع عزف قيثارة رغم أن قوسه بعيد عن الوتر.
وحين صافحت يدك وشعرت بأناملك الرقيقة تمس يدي سرت في جسدي تلك الرجفة التي أوقدت جذوة الحياة في أوردتي...
لا زلت أذكر تلك الأمسية ... وكيف لي أن أنساها؟؟؟ كيف لي أن أنسى لحظة ميلاد انتظرتها سنين وسنين...
أتذكرين حين سقط منديلك الحريري على عشب الحديقة... ساعتها عجبت من شأن العشب والمنديل ... كأن العشب حاول أن يطال يدك فيلثم ذلك المنديل و خلت أن المنديل قد شعر بما يكابده العشب فآثر إلا أن يقفز من يدك ليحتضنه وينشر عطرك عليه...
كم هو محظوظ هذا العشب وكم هو فريد!!! لقد حق له أن يختال على كل الأزهار والرياحين حين تنفس عطر منديلك.
ألا تذكرين حين أتت الريح فحملت ذلك المنديل بين كفيها وسعت بمكرها أن تأخذه بعيداً، ربما أرادت أن تنال حظها هي الأخرى من العبير وربما كان بينها وبين العشب اتفاقا خفياً كي تنثر المزيد من عطرك على مباسمه المتلهفة، ولولا تلك الدوحة التي كانت مستقرة في وسط الحديقة أبت أن تتم تلك المؤامرة تحت سمعها وبصرها، فأرسلت أفضل أغصانها ليلقف هذا المنديل....
كم أنا مدين للعشب والشجرة والمنديل... فلولاهم ما كنت قد فقدت وقاري لأنضم إليهم في مؤامرتهم وما كنت لأركض أنا الآخر خلف منديلك الآبق ...
لكم وددت أن تطول رحلة ركضي خلفه لقد أحسست وكأن ركضي هو آخر فرصة للحاق بقطار العشق الذي كان يتخطى محطتي في كل مرة. فكم تنعمت بملمسه الحريري حين قبضت طرفه بيدي....
آه أيها المنديل ... كم أنا شاكر لك ... معترف بفضلك أيها المنديل النبيل يا من وهبتني أول ابتسامة عرفان من ثغرها و أسمعتني أول أحرف اختصتني بها شفتاها... وكنت أول هدية منحتني إياها...
والآن يا رفيق رحلة عشقي ... أخلد في صندوق ذكرياتي العاجي، وقر عيناً فأنا اليوم حدثتها عنك وأنت حدثتني عنها